كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} إلى غير ذلك، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} كل ذلك يدل على خلاف ما ذكرته؟ نقول: سنبين موافقته لما ذكرنا إن شاء الله تعالى في مواضعه، عند ذكر تفسيره.
فإن قيل: الأحاديث تدل على خلاف ما ذكرته، حيث ورد في الأخبار أن جبريل عليه السلام أرى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على صورته، فسدّ المشرق؟ فنقول: نحن ما قلنا: إنه لم يكن وليس في الحديث أن الله تعالى أراد بهذه الآية تلك الحكاية، حتى يلزم محالفة الحديث، وإنما نقول: إن جبريل أرى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه مرتين، وبسط جناحيه، وقد ستر الجانب الشرقي وسدَّه، ولكن الآية لم ترد لبيان ذلك. انتهى كلام الرازي.
وفي القرطبيّ حكاية أقوال أخر، وعبارته:
{فَاسْتَوَى} أي: ارتفع جبريل وعلا إلى مكانة في السماء، بعد أن علّم محمدًا صلى الله عليه وسلم، قاله سعيد بن المسيب وابن جبير.
وقيل:
{فَاسْتَوَى} أي: قام وظهر في صورته التي خُلِق عليها.
وقول ثالث: إن معنى {فَاسْتَوَى} أي: استوى القرآن في صدره. وفيه على هذا وجهان:
أحدهما: في صدر جبريل حين نزل به عليه السلام.
الثاني: في صدر محمد صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه.
وقول رابع: إن معنى {فَاسْتَوَى} فاعتدل، يعني محمدًا في قوّته، والثاني في رسالته، ذكره الماورديّ.
وعلى الأول يكون تمام الكلام {ذُو مِرَّةٍ}، وعلى الثاني {شَدِيدُ الْقُوَى}.
وقول خامس: إن معناه فارتفع، وفيه على هذا وجهان:
أحدهما: أنه جبريل ارتفع إلى مكانه، على ما ذكرناه آنفًا.
الثاني: أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم ارتفع بالمعراج.
وقول سادس:
{فَاسْتَوَى} يعني الله عز وجل، أي: استوى على العرش، على قول الحسين. انتهى.
هذا ما وقفنا عليه الآن من الأقوال في الآية، وسيأتي في أول التنبيهات إيضاح ما اخترناه منها، وإنما أخّرنا ذكره لارتباطه بالآيات الآتية.
{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [8- 9].
{ثم دنا} أي: ثم بعد استوائه اقترب جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم {فتدلى} أي: إليه.
قال ابن جرير: هذا من المؤخر الذي معناه التقديم، وإنما هو ثم تدلى فدنا، ولكنه حسن تقديم قوله: {دنا} إذ كان الدنو يدل على التدلي، والتدلي على الدنو. كما يقال: زارني فلان فأحسن إليّ فزارني.
وقال الشهاب: التدلي مجاز عن التعلق بالنبيّ بعد الدنو منه، لا بمعنى التنزل من علوّ، كما هو المشهور. أو هو دنوّ بحالة التعلق، فلا قلب ولا تأويل بـ: أراد الدنو، كما في(الإيضاح).
{فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} أي: كان مسافة ما بينهما مقدار قوسين. أي: بقدرهما إذا مُدّا أو أقرب. أو الضمير لجبريل، أي: كأنه قربه قدر ذلك.
قال الشهاب: وقاب قوسين وقيبه: ما بين الوتر ومقبضه، والمراد به المقدار، فإنه يقدّر بالقوس، كالذراع.
وقد قيل: إنه مقلوب، أي: قابى قوس، ولا حاجة إليه؛ فإن هذا إشارة إلى ما كانت العرب في الجاهلية تفعله، إذا تحالفوا أخرجوا قوسين، ويلصقون إحداهما بالأخرى، فيكون القاب ملاصقًا للآخر، حتى كأنهما ذوا قاب واحد، ثم ينزعانهما معًا ويرميان بهما سهمًا واحدًا، فيكون ذلك إشارة إلى أن رضا أحدهما رضا الآخر، وسخطه سخطه، لا يمكن خلافه، كذا قال مجاهد، وارتضاه عامة المفسرين. انتهى.
قال السمين: وقوله تعالى: {أَوْ أَدْنَى} كقوله: {أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]، لأن المعنى: فكان بأحد هذين المقدارين في رأي الرائي، أي: لتقارب ما بينهما، يشك الرائي في ذلك. فهو تمثيل لشدة القرب، وتحقيق استماعه لما أوحى إليه بأنه في رأي العين، ورأى الواقف عليه، كما مر في {أَوْ يَزِيدُونَ} فإن المعنى: إذا رآهم الرائي يقول: هم مائة ألف أو يزيدون.
وقيل: أو بمعنى بل، أي: بل أدنى.
و {أَدْنَى} أفعل تفضيل، والمفضل عليه محذوف. أي: أو أدنى من قاب قوسين. وقوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [10].
{فَأَوْحَى} أي: جبريل {إِلَى عَبْدِهِ} أي: عبد الله تعالى، وهو النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإنما أضمر اسمه تعالى لعدم اللبس، وغاية ظهوره، أو: فأوحى الله عز وجل، بواسطة جبريل الذي تدلى إليه {مَا أَوْحَى} أي: مما أمره به. وفيه تفخيم للموحى به؛ إذ الإبهام يفيد التعظيم، كأنه أعظم من أن يحيط به بيان.
{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [11].
{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} أي: ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه من الملك الذي جاءه بالوحي من ربه. يعني: أنه رآه بعينه وتيقنه بقلب، لاولم يشك في أن ما رآه حق وصدق، وقرئ: {مَا كَذَبَ} بالتشديد، أي: صدقه ولم يشك أنه ملَك رباني، لا خيال شيطاني، كما قال: {وَمَا هُوَ بِقول شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير: 25]. وقد ذكر ابن كثير أن هذه الرؤية في أوائل البعثة، كما تقدم النقل عنه.
{أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [12].
{أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} أي: أفتجادلونه وتلاحونه على ما يراه معاينة من رؤية الملك والمنزل عليه.
قال القاشانيّ: أي: أفتخاصمونه على شيء لا تفهمونه ولا يمكنكم معرفته وتصوره، فكيف يمكنكم إقامة الحجة عليه؟ وإنما المخاصمة حيث يمكن تصور الأمر المختلف فيه، ثم الاحتجاج عليه بالنفي والإثبات، فحيث لا تصور، فلا مخاصمة حقيقية. انتهى. وذلك لأن رؤية الملك وتنزله حالة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء عليهم السلام، لا يمكن لغيرهم اكتناهها، وإنما عليهم الإيمان بها والإذعان لها، لقيام الدليل عليها. وبالجملة فالمراد أنه لا يصح المجادلة في المرئيّ، لأنه لا يجوز الجدال في المحسوسات، لا سيما إذا تعددت المشاهدة لها كما قال: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [13- 18].
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} أي: مرّة أخرى من النزول، وتأكيد الخبر عن الرؤية الثانية هذه، لنفي الريبة والشك عنها أيضًا، وأنه لم يكن فيها التباس واشتباه.
{عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} أي: موضع الانتهاء. فـ {الْمُنْتَهَى}: اسم مكان، أو مصدر ميميّ. وقد جاء في الصحيح أنها «شجرة نبق في السماء السابعة، إليها ينتهي ما يعرج به من أمر الله من الأرض، فيقبض منها، وما يهبط به من فوقها، فيقبض منها».
قال القاضي: ولعلها شبهت بالسدرة، وهي شجرة النبق، لأنهم يجتمعون في ظلها، يعني أن شجر النبق يجتمع الناس في ظله، وهذه يجتمع عندها الملائكة، فشبهت بها، وسميت {سِدْرَةِ} لذلك. فإطلاقها عليها بطريق الاستعارة، لكن ورد في الحديث «أن كل نبقة فيها كقلة من قلال هَجَر»، فهي على هذا حقيقية، وهو الأظهر، قاله الشهاب.
{عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} أي: التي يأوي إليها أرواح المقرّبين.
{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قال القاشانيّ: أي: من جلال الله وعظمته. معناه أنه رأى جبريل عليه السلام عند سدرة المنتهى حينما كانت الأرواح والملائكة تغشاها، وتهبط عليها، وتحف من حولها.
{مَا زَاغَ الْبَصَرُ} أي: ما مال بصر رسول الله، بل الله عليه وسلم عما رآه.
{وَمَا طَغَى} أي: ما تجاوز مرئية المقصود له، بل أثبت ما رآه إثباتًا مستيقنًا صحيحًا لا شبهة فيه. وفيه وصف لأدبه صلى الله عليه وسلم وتمكّنه، إذ لم يتجاوز ما أمر برؤيته.
{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} يعني الملك الذي عاينه وأخبره برسالته. وفيه غاية التفخيم لمقامه، وأنه من الآيات الكبر.
قال الناصر: ويحتمل أن تكون {الْكُبْرَى} صفة لآيات، ويكون المرئيّ محذوفًا لتفخيم الأمر وتعظيمه، كأنه قال: لَقَدْ رأى من آيات ربه الكبرى أمورًا عظامًا لا يحيط بها الوصف. والحذف في مثل هذا أبلغ وأهول.
تنبيهات:
الأول: قدمنا في تفسير قوله تعالى: {فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} ما قاله المفسرون من الأقوال العديدة، ولا يخفى ما في بعضها من التكلف والتعسف، كتوجيه ابن جرير والرازيّ ومن وافقهما، وبعض أقوال حكاها القرطبيّ. والأقرب في معنى الآية ما ذكره الإمام ابن كثير، كما نقلناه عنه، لكثرة الأحاديث الواردة فيما يفسرها بذلك، ونحن نقول في تأييده: إن القرآن يفسر بعضه بعضًا، لتشابه آياته الكريمة وتماثلها. والآية هذه مشابهة لما في سورة التكوير تمام المشابهة، فقد قال تعالى ثمة:
{إِنَّهُ لَقول رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 19- 23]، فترى هذه الآيات مشابهة للآيات هنا، وإن كان فيما هنا زيادة رؤية، وبيان دنوّ واقتراب لم يذكر في التكوير. وسر الزيادة هو ارتقاء النبيّ صلى الله عليه وسلم في معارج الكمالات وقتًا فوقتًا، وسورة النجم مما نزل بعد التكوير، كما حكاه في (الإتقان) عن ابن عباس وغير واحد من السلف، فلذلك كان في النجم زيادة هذا التكريم والتفضيل. وحاصل المعنى: أن ما ينطق به من هذا القرآن ليس عن هواه، وإنما هو وحي علمه إياه ملك كريم، جمّ المناقب، لأنه شديد القوى، ذو مرة، رفيع المكانة بالأفق الأعلى. ثم لما شاء تعالى إنزال وحيه على نبيّه تنزل من الأفق ودنا إليه، وكان في غاية القرب منه، والتمكن من رؤيته، وتلقي الوحي عنه، وذلك كله حق وصدق لا مرية فيه. وكيف يماري من يرى ببصره ما يصدقه فؤاده فيه ولا يكذبه، لا سيما ولم تكن رؤياه له مرة واحدة، بل رآه نزلة ثانية، نزل إليه بالوحي في مكان معين لا يشتبه على رائيه، وهو سدرة المنتهى. وبالجملة، فتوافق هذه الآيات لآيات التكوير من تفسير بعضها بعضًا، أمر لا خفاء به عند المتدبر، وكله ردٌّ على المشركين المفترين، وإقسام على حقيقة الوحي والتنزيل، وصدق ما يخبر به، لا سيما وهو صادق عندهم لا يكذبونه. فما بقي بعد التعنت والجحد إلا انتظار سنة الله في أمثالهم من الأمم الكافرة الجاحدة، كما أشار له في آخر السورة.
هذا ملخص معنى الآيات، وما عداه فتوسع وحمل اللفظ على ما تجوّزه مادته. وكل ما يتسع له اللفظ هو المراد والله الموفِّق.
الثاني: ما قدمناه من رجوع الضمائر في قوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} إلخ إلى جبريل عليه السلام، هو الذي عوّل عليه عامة المفسرين، وقد أيدناه بما رأيت.
قال الإمام ابن تيمية: الدنوّ والتدلّي في سورة النجم هو دنوّ جبريل وتدلّيه- كما قالت عائشة وابن مسعود- والسياق يدل عليه، فإنه قال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} وهو جبريل، {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى، وهو ذو المرة، أي: القوة، وهو الذي استوى بالأفق الأعلى، وهو الذي دنا فتدلّى، فكان من محمد صلى الله عليه وسلم قدر قوسين أو أدنى، وهو الذي رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، رآه على صورته مرتين، مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى. انتهى.
وروى البخاري في هذه الآيات عن ابن مسعود قال: «رأى جبريل له ستمائة جناح».
وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم «رأى جبريل، ولم يّره في صورته إلا مرتين، مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في جياد مكان بمكة له ستمائة جناح، قد سدّ الأفق».
وأما ما وقع في حديث شريك في البخاريّ من قوله: «دنا الجبّار رب العزة فتدلّى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى»، فإن لم يكن ذلك من زيادة شريك، على ما ذهب إليه الإمام مسلم وغيره، فهو دنو وتدلّ غير ما في سورة النجم، نؤمن به ونفوض كيفيته إليه تعالى، كسائر الصفات.
قال ابن كثير: قد تكلم كثير من الناس في رواية شريك، فإن صح فهو محمول على وقت آخر، وقصة أخرى، لا أنها تفسير لهذه الآية، فإن كانت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض، لا ليلة الإسراء. ولهذا قال بعده: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}، فهذه هي ليلة الإسراء، والأولى كانت في الأرض. انتهى.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقيّ: وقع في حديث شريك في الإسراء زيادة على مذهب من زعم أنه صلى الله عليه وسلم رأى الله عز وجل. وقول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة في حملهم هذه الآيات على رؤية جبريل، أصح.
قال العماد بن كثير: وهذا الذي قاله البيهقيّ رحمه الله في هذه المسألة، هو الحق، فإن أبا ذّر قال: يا رسول الله! رأيت ربك؟ قال: «نور أنّى أراه». وفي رواية: «رأيت نورًا» أخرجه مسلم.
وقوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} إنما هو جبريل عليه السلام، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن عائشة وعن ابن مسعود. وكذلك هو في صحيح مسلم عن أبي هريرة، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة في تفسير هذا بهذا. انتهى.
وقال شمس الدين بن القيم في (زاد المعاد): اختلف الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأى ربه تلك الليلة أم لا؟ فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه، وصح عنه أنه قال: رآه بفؤاده، وصحّ عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك، وقال: إن قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} إنما هو جبريل. وصحّ عن أبي ذرّ أنه سأله: هل رأيت ربك؟ قال: «نور أنّى أراه» أي: حال بيني وبين رؤيته النور، كما في لفظ آخر: «رأيت نورًا».
وقد حكى عثمان بن سعيد الدارميّ اتفاق الصحابة على أنه لم يره.
قال الإمام ابن تيمية: وليس قول ابن عباس أنه رآه مناقضًا لهذا، ولا قوله رآه بفؤاده. وقد صح عنه أنه قال: «رأيت ربي تبارك وتعالى»، لكن لم يكن هذا في الإسراء، ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه. وعلى هذا بنى الإمام أحمد وقال: نعم رآه حقًا، فإن رؤيا الأنبياء حق ولا بد. وأما قول ابن عباس: رآه بفؤاده مرتين، فإن كان استناده إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} ثم قال: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} والظاهر أنه مستنده، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل، رآه مرتين في صورته التي خلق عليها. انتهى.
وقال ابن كثير: أما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ربي عز وجل» فإنه حديث إسناده على شرط الصحيح، لكنه مختصر من حديث المنام، كما رواه الإمام أحمد أيضًا عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني ربي الليلة في أحسن صورة- أحسبه، يعني في النوم- فقال: يا محمد! أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال قلت: لا. فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثدييّ- أو قال نحري- فعلمت ما في السماوات وما في الأرض. ثم قال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال قلت: نعم! يختصمون في الكفارات والدرجات. قال وما الكفارات؟ قال: قلت: المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء في المكاره! من فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير. وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه. وقال: قل يا محمد إذا صليت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة، أن تقبضني إليك غير مفتون».